بسم
الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من
شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي
له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده
ورسوله، صلى الله عليه وآله وسلم تسليمًا.
أما بعد:
إن كل إنسان يعيش في هذه الدنيا لا بد له من أن يتواجد في
وقت من الأوقات في مجلس ما من مجالس الناس التي هي جزء لا يتجزأ من هذه
الحياة، ولا يمكن لأحد أن يتجنب مجالس الناس إلا أن يعيش بمفرده في جزيرة
نائية في عرض البحر.
ومجالس الناس أنواع كثيرة جدًا، فمن يرد الله به خيرًا
يوفقه إلى حضور الصالح منها، فإذا حصل أن تواجد في مجلس من المجالس الأخرى
استفاد منها باتخاذ العبر على حسب قول الشاعر:
عرفت الشر لا للشر لكـن لتوقيـه
ومن لا يعرف الشر من الناس يقع فيه
فيعرف نوعية المجالس التي يجب عليه أن يتوقاها، ويحرص على
تجنب حضورها في المستقبل، ويستفيد مما جرى فيها بأن يكون قد أصبح لديه فكرة
وخبرة تمكنه من المقارنة بين المجالس الصالحة والمجالس السيئة.
وقد حرص نبينا المصطفى صلى الله عليه وآله وسلَّم على أن
يبين لنا أنواع المجالس والجلساء، وبيَّن لنا الفوائد والخسائر. وقد بلغ
اهتمامه صلى الله عليه وسلَّم بالمجالس أن بيَّن آدابها وسننها، فمن آدابها
مثلاً، قال صلى الله عليه وسلَّم: «لا يقيم الرجلُ الرجلَ من مجلسه ثم يجلس فيه»[1]،
وكان ابن عمر إذا قام له رجل عن مجلسه لم يجلس فيه.
وقال صلى الله عليه وسلَّم: «إذا قام أحدكم من مجلسه، ثم رجع إليه، فهو أحق به»[2]،
وعن جابر بن سمرة رضي الله عنهما، قال: كنا إذا أتينا النبي صلى الله عليه وسلَّم،
جلس أحدنا حيث ينتهي[3].
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلَّم أنه لا يجوز للرجل أن يجلس بين اثنين
إلا إذا أذنا له فقال صلى الله عليه وسلَّم: «لا يحل لرجل أن يفرق بين اثنين إلا بإذنهما»[4]،
وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلَّم من يجلس وسط الحلقة أو المجلس.
ومن سنن المجالس التي بينها رسول الله صلى الله عليه وسلَّم
أنه: «من قعد مقعدًا لم يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة»[5].
وأنه «ما جلس قوم مجلسًا لم يذكروا الله فيه، ولم يصلوا على
نبيهم، إلا كان عليهم ترة، فإن شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم»[6].
وقد حذر نبينا صلى الله عليه وسلَّم الداخل إلى مجالس الناس
أو الخارج منها من عاقبة خطيرة تترتب على حبه أن يتمثل له الجالسون قيامًا،
فقال عليه الصلاة والسلام: «من أحب أن يتمثل له الرجال قيامًا، فليتبوأ مقعده من النار»[7].
أما عند القيام من المجلس فقد سنَّ لنا رسول الله صلى الله
عليه وسلَّم سنة وهي أنه: «مَن جلس في مجلس فكثر فيه لغطه، فقال قبل أن يقوم من مجلسه
ذلك: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك»[8]،
فهذا دعاء كفارة المجلس، واللغط، أي الكلام الذي لا ينفع في الآخرة.
أما عن صنف الجليس الذي يجب على المسلم أن يحرص على اختياره
فقد بيَّن لنا النبي صلى الله عليه وسلَّم أن «الرجـل
على ديـن خليله فلينظر أحدكم من يخالل»[9].
وذلك لأن
«المرء مع من أحب»[10].
ودلنا على أنه «لا تصاحب إلا مؤمنًا، ولا يأكل طعامك إلا تقي»[11]،
والسبب في ذلك يعود إلى أن هناك اختلافًا كبيرًا بين هذا الصنف من الجلساء
أو الأصدقاء الذي يدعونا النبي صلى الله عليه وسلَّم إلى اختياره، وبين
الصنف الآخر الذي يحذرنا من اتخاذه صديقًا أو حتى الجلوس معه، والاختلاف
هو: «إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء، كحامل المسك، ونافخ
الكير، فحامل المسك، إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه
ريحًا طيبةً، ونافخ الكير، إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد ريحًا خبيثة»[12].
وقد بيَّن لنا نبي الهدى صلى الله عليه وسلَّم
أفضل المجالس وأشرفها وحثنا على إقامتها أو ارتيادها للفوز
بخيري الدنيا والآخرة، فقال صلى الله عليه وسلَّم: «لا يقعد قوم يذكرون الله عزَّ وجلَّ إلا حفتهم الملائكة،
وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة؛ وذكرهم الله فيمن عنده»[13].
وقد خرج صلى الله عليه وسلَّم، على حلقة من أصحابه فقال: «ما أجلسكم؟»
قالوا: جلسنا نذكر الله، ونحمده على ما هدانا للإسلام ومنَّ به علينا. قال:
«آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟»
قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك. قال: «أما إني لم أستحلفكم تهمةً لكم، ولكنه أتاني جبريل فأخبرني
أن الله عزَّ وجلَّ يباهـي بكـم الملائكة»[14].
وقال عليه الصلاة والسلام: «إن
لله تبارك وتعالى ملائكة سيارة فضلاً يتبعون مجالس الذكر، فإذا وجدوا
مجلسًا فيه ذكر، قعدوا معهم، وحف بعضهم بعضًا بأجنحتهم حتى يملؤوا ما بينهم
وبين السماء الدنيا، فإذا تفرقوا عرجوا وصعدوا إلى السماء، فيسألهم الله
عزَّ وجلَّ -وهو أعلم بهم-: من أين جئتم؟ فيقولون: جئنا من عند عباد لك في
الأرض: يسبحونك، ويكبرونك، ويهللونك، ويحمدونك، ويسألونك. قال: وماذا
يسألوني؟ قالوا: يسألونك جنتك. قال: وهل رأوا جنتي؟ قالوا: لا، أي رب. قال:
فكيف لو رأوا جنتي؟! قالوا: ويستجيرونك. قال: ومم يستجيروني؟ قالوا: من
نارك يا رب. قال: وهل رأوا ناري؟ قالوا: لا، قال: فكيف لو رأوا ناري؟!
قالوا: ويستغفرونك. فيقول: قد غفرت لهم، فأعطيتهم ما سألوا، وأجرتهم مما
استجاروا. فيقولون: رب فيهم فلان عبد خطاء إنما مر، فجلس معهم، فيقول: وله
غفرت، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم»[15].
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلَّم شديد الحرص على
القعود في مجالس الذكر ومجالسة الذين يدعون ربهم ويقول: «لأن أقعد مع قوم يذكرون الله تعالى من صلاة الغداة حتى تطلع
الشمس، أحب إليَّ من أن أعتق أربعة من وُلْدِ إسماعيل، ولأن أقعد مع قوم
يذكرون الله من صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس، أحب إليَّ من أن أعتق أربعة»[16].
وقد كان صلى الله عليه وسلَّم
إذا مر بقوم يذكرون الله أو يقرؤون القرآن يجلس معهم طاعة لأمر الله تبارك
وتعالى له:
﴿واصبر
نفسك مع الذين
يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم﴾[17].
«أي اجلس مع الذين يذكرون
الله ويهللونه ويحمدونه ويسبحونه ويكبرونه ويسألونه بكرة وعشيًا من عباد
الله سواء كانوا فقراء أو أغنياء أو أقوياء أو ضعفاء»[18].
فالله عزَّ وجلَّ يأمر نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلَّم بالجلوس مع هؤلاء، والأمر موجه لكل
مسلم.
فإذا كانت هذه أفضل المجالس وأشرفها، فإن هناك أنواعًا
كثيرة من المجالس الأخرى، أي؛ مجالس السوء. وعن هذه المجالس كانت هذه
الرسالة؛ التي جاءت حصيلة مجالس حضرتها لأغراض مختلفة قد تكون للعيادة، أو
للتهنئة بعيد أو مولود أو غير ذلك، أو لوداع مسافر أو تهنئته بالوصول من
السفر، أو غير ذلك من الآداب والعادات الاجتماعية التي يواجهها كل إنسان
ويقوم بها راغبًا حينًا وغير راغب أو مضطرًا أحيانًا أخرى.
وبما أن ما يستخدمه الإنسان في هذه المجالس هو اللسان، فقد
بدأت الرسالة بفصل عنه وعن الكلمة التي تخرج بواسطته، ثم تحدثت في فصول
أخرى عن: مجالس الغيبة بلباس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومجالس
الثرثرة، ومجالس السخرية والاستهزاء والاحتقار، ومجالس الإفك، ومجالس اللعن
والطعن.
وكما في قول الشاعر السابق، فإني أرجو لأخي القارئ أن
يكوِّن فكرة عن مجالس الشر حتى يتوقاها ولا يقع فيها، وآمل أن أكون قد وفقت
في تقديم صورة واقعية تخدم هذا الغرض. وأسأل الله العلي القدير أن ينفع
بهذه الرسالة المسلمين، إنه أكرم مأمول وبالإجابة جدير.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا.
عدنان الطرشة
[1]
أخرجه البخاري في كتاب الاستئذان، باب لا يقيم الرجلُ الرجلَ من مجلسه.
[2]
أخرجه مسلم في كتاب السلام، باب إذا قام من مجلسه ثم عاد فهو أحق به.
[3]
صحيح سنن أبي داود، رقم: 4040.
[4]
صحيح سنن أبي داود، رقم: 4055.
[5]
صحيح سنن أبي داود، رقم: 4056.
[6] صحيح سنن الترمذي، رقم: 2691.
[7]
صحيح سنن أبي داود، رقم: 4357.
[8]
صحيح سنن الترمذي، رقم: 2730.
[9]
صحيح سنن أبي داود، رقم: 4046.
[10]
أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب علامة حب الله عزَّ وجلَّ.
[11]
صحيح سنن أبي داود، رقم: 4045.
[12]
أخرجه مسلم في كتاب البر، باب استحباب مجالسة الصالحين ومجانبة قرناء
السوء.
[13]
أخرجه مسلم في كتاب الذكر، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى
الذكر.
[14]
أخرجه مسلم في كتاب الذكر، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى
الذكر.
[15]
أخرجه مسلم في كتاب الذكر، باب فضل مجالس الذكر.
[16]
صحيح سنن أبي داود، رقم: 3114.
[17]
سورة الكهف، الآية: 28.
[18]
ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 3/85.