الحمد لله رب العالمين،
والصلاة والسلام على خاتم
الأنبياء والمرسلين نبينا
محمد وآله وصحبه أجمعين.
في أحد الأيام وحين أحسست
بحكة في رجلي وجدت بقعة حمراء
كبيرة سببتها بعوضة قد مصت
دمي وطارت ولم أكتشف فعلها
إلا بعد أن مر وقت على ذلك،
أي بعد أن زال التخدير الذي
حقنتني به في ذلك الموضع
لتمتص دمي دون انتباه مني!
فأخذت أتأمل بفعلها وعن ضعف
الإنسان في التغلب على هذه
الحشرة الصغيرة ومنعها من
قرصه وسلب دمه.
فيا أيها الإنسان لماذا
التكبر والجبروت وأنت لا
تستطيع أن تمنع بعوضة من أن
تسلب دمك وهو من أعز الأشياء
في جسدك؟! فأين يقظتك وسيطرتك
على الأمور والأشياء وقد حطت
على جسمك بعوضة وأجرت لك
عملية جراحية بعد أن قامت
بوضع تخدير موضعي على الموضع
فشقت بسكاكينها جلدك وأخذت
عينة من دمك واختبرتها لمعرفة
إن كان دمك من النوع الذي
تحبه، حيث إنها لا تحب كل
أنواع الدماء وإنما بعض
الأنواع، وحين وجدت دمك من
النوع الذي تحبه حقنتك بمادة
لتمييع دمك ليسهل مصه في
أنبوبها الدقيق جدًا، فمصت
دمك بكل سهولة ويسر ثم غادرت
الموضع ولم يعد باقيًا سوى أن
تضع لك لصقة طبية على موضع
العملية كما يحدث بعد أخذ دمك
في المختبر الطبي، إلا أن
البعوضة ليست بحاجة إلى هذه
العمل فتتركه لك لكي تكتشف
بنفسك بعد زوال التخدير كم
أنك ضعيف وأنها قد تغلبت عليك
دون أي شعور منك أو قدرة على
منعها!
فأين قوتك وجبروتك أيها
الإنسان حين قيام البعوضة
بهذه العملية التي تكررها على
جسمك باستمرار على مدى حياتك
وتجعلك بعدها تعاني من الحكة
والألم؟! حين تسمع طنين
البعوضة ومن أجل تفادي قرصك
تجعلك تحرك هذه الرجل مرة
والرجل الأخرى مرة أخرى،
وتفعل ذلك باليدين حتى تمنعها
من قرصك، وربما تصفع رقبتك من
الخلف إذا شككت أنها غطت
عليها، وقد تسارع إلى حمل
المضرب لتمارس قوتك وتفوقك
عليها فتقتلها، ثم تجول في
أنحاء الغرفة بحثًا عنها دون
جدوى، وحين تكف عن البحث بعد
الفشل في إيجادها تكتشف أنها
عملت لك فركة أذن (كناية عن
عقوبة وتأديب خفيف)، أي كانت
أثناء ذلك تسلب دمك من أذنك!
فأين دهاؤك أيها الإنسان وأين
ذكاؤك حين فعلت ذلك بك بعوضة
وتبين بعدها أنها كانت أدهى
منك؟!
إن أصغر وأحقر خلق الله يفعل
هذا بك باستمرار أيها الإنسان
فتثبت لك البعوضة أنها أدهى
منك في حين أنك تتباهى على
خلق الله أنك أذكى منهم
وأدهى، وأقوى وأكبر؟! ولهذا
ضرب الله عزَّ وجلَّ مثلاً
بالبعوضة وبالذباب، فقال
تعالى:
]إِنَّ
اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ
يَضْرِبَ مَثَلًا مَا
بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا[
[البقرة: 26] وقال تعالى عن
الذباب:
]يَاأَيُّهَا
النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ
فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ
الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ
دُونِ اللَّهِ لَنْ
يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ
اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ
يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ
شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ
مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ
وَالْمَطْلُوبُ[[الحج:
73]، فأرنا قوتك أيها الإنسان
فاستنقذ دمك واسترجعه من
البعوضة التي سلبتك إياه
رغمًا عن أنفك!
فيا أيها الإنسان حين تدعوك
نفسك إلى التكبر والتجبر على
أمثالك من بني الإنسان تذكر
قول الله تعالى:
]وَلَا
تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا
إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ
الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ
الْجِبَالَ طُولًا[[الإسراء:
37]. فمهما كانت قوتك فلن
تقطع الأرض بمشيتك، ومهما
فرحت بسلطتك وإعجابك بنفسك
فلن تبلغ الجبال طولاً، فإن
فيروسًا يمكن أن يقعدك عن
المشي أو يهلكك الله به، فإن
لم تتذكر قول الله، فتذكر
البعوضة التي تتغلب عليك في
معاركك معها فتكون هي الفائزة
وأنت المهزوم بل والخاسر
لكمية من دمك.
وصلى الله على نبينا محمد
وآله وصحبه وسلَّم تسليمًا.
عدنان الطَرشَة