القضاة: حكام الزوايا:
---------------------
في
كل دورة تحكيم أكون مشاركـًا فيها كمسؤول أجد من المسؤولين الآخرين حرصًا على شرح
القوانين والأمور الظاهرة التي تخص التحكيم في البطولات وهو أمر ضروري قبل كل
بطولة، في حين كنت شخصيًا أحرص على التنبيه والتحذير من الأمور الباطنة والخفية
التي تحدث أثناء التحكيم عادة. فقوانين التحكيم والأمور الظاهرة التي على الحكام
معرفتها هي الضربات الصحيحة والخاطئة في المباريات، وكيفية احتساب النقاط، وطرق
تصرف الحكام أثناء المباريات، وكيفية إعطاء القرارات في نهاية المباراة التي يترتب
عليها فوز أحد اللاعبين وخسارة الآخر وغير ذلك من الأمور التي على الحكام أن يكونوا
ملمين بها جيدًا من أجل أن تكون قراراتهم صحيحة تمامًا.
أما
الأمور الباطنة والخفية التي كنت أحرص على التنبيه إليها فهي متعلقة بعقول الحكام
وأنفسهم؛ لأن النزاهة والعدل في قرارات الحكام متعلقة بها، إذ ما نفع قوانين
التحكيم إذا تغلب الانحياز أو العاطفة والمجاملة على عقل الحكم ونفسه فيعطي قرارًا
خاطئـًا وفيه انحياز إلى أحد اللاعبين ومجحفًا وظالمًا في حق اللاعب الآخر؟! فمصير
اللاعب وربما مستقبله في اللعبة هو بأيدي الحكام (القضاة) التي يحملون فيها الأعلام
البيضاء والحمراء وكذلك بيد حكم الوسط مما يعني أن الأمر خطير وليس مجرد حركة
باليد. قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم:
«القضاة
ثلاثة، اثنان في النار، وواحد في الجنة رجل علم الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل
قضى للناس على جهل فهو في النار، ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار»[1].
فمن بين
الأمور التي على الحكام معرفتها والإيمان بها أنه حين تبدأ مباراة بين لاعبين
اثنين، فليس التنافس هنا بين هذين اللاعبين فقط وأن أحدهما سوف يفوز والآخر يخسر،
بل إن مباراة التنافس تبدأ أيضًا بين الحكام؛ إذ على الحكم أن يفوز أيضًا بقراراته
النزيهة والعادلة في المباراة لا أن يخسر بتحيزه وظلمه، فالانحياز لا يمكن ستره
وإخفاؤه بل يكون مفضوحًا وظاهرًا لكل الحاضرين في وقته وعلى مدى الزمن في المستقبل
إذا تم تصويره بالفيديو.
والانحياز
عار يجب على كل حكم أن ينزه نفسه عنه ويتبرأ من كل ما يؤدي إليه أو يوقعه فيه؛ لأنه
فشل وإهدار سمعة للحكم بالمجان من أجل مجاملة لاعب أو مدربه.. وعندئذٍ فما الذي
يستفيده الحكم إذا فاز اللاعب وخسر هو سمعته وبدلاً من أن يوصف بالحكم النزيه
والعادل يوصف بالمنحاز والظالم والسيئ وغير ذلك من الأوصاف؟! وإذا عُرف حكم ما بهذه
الأوصاف فمن الصعب إزالتها من أذهان الناس فيما بعد، وقد يترتب عليها عدم اختياره
كحكم في بطولة قادمة إذا كان المنظمون لها حريصون على النزاهة والعدل فيها. ومن
ناحية شرعية فإن الحكم بتحيزه هو كمن يبيع آخرته من أجل دنيا غيره، أو كمن يلتمس
رضا الناس بسخط الله، مع أن الواجب أن يلتمس رضا الله ولو سخط عليه الناس.
أما
بالنسبة للحكم الحريص على النزاهة والعدل وتجنب الانحياز والمحاباة فإن هناك أمورًا
وظواهر قد تضغط على عقله ونفسه فينحاز دون شعور وعن غير قصد منه وتكون قراراته
منحازة وبعضها ظالمة وهو يظن أنه كان عادلاً، ومن هذه الأمور:
- عقدة
البطل واللاعب المعروف، إذ بمجرد دخول مثل هذا اللاعب إلى الحلبة وقبل بدء المباراة
يقع في نفس بعض الحكام أن هذا اللاعب هو الفائز وتسيطر هذه الفكرة على عقل الحكم
فتكون قراراته وحركات أعلامه لصالح هذا اللاعب، بل ربما يكون تركيز نظر الحكم على
حركات هذا اللاعب على أساس أنه هو اللاعب الأفضل وأن الضربات الفنية أو القاضية
ستصدر منه، ويكون التركيز أقل على اللاعب الآخر فلا يرى جميع حركاته التي ربما تكون
أفضل وفعالة أكثر من اللاعب المعروف. فليس شرطًا أن يفوز كل بطل ولاعب معروف بكل
مباراة بل ربما يأتي زمان فيفوز عليه لاعب مغمور ومجهول ويشارك في بطولة لأول مرة.
ولهذا يجب على الحكم عدم التأثر بشخصية اللاعب إذا كان بطلاً أو بتاريخه السابق
واعتباره فائزًا أو حتى تمني فوزه مع دخوله إلى الحلبة إذا كان اللاعب الآخر
مجهولاً أو جديدًا في البطولات، فجميع الذين صاروا أبطالاً كانوا في البداية
مجهولين ويشاركون في بطولة لأول مرة.
- التأثر
بتشجيع الجمهور وتصفيقه أو صراخه لصالح لاعب ما؛ وهو أمر طبيعي بالنسبة للجمهور حتى
وإن كان اللاعب فاشلاً في قتاله ومصيره الخسارة، إلا أن هذا التشجيع الكبير من
الجمهور يضغط على عقل بعض الحكام فينحاز للاعب عن غير قصد ليكسب جمهور هذا اللاعب
وليتجنب إغضابه ومن ثم تعرضه للشتم والسباب من قبل هذا الجمهور؛ وهذا أمر ليس في
صالح الحكم ويجب عليه عدم الاستسلام لحجم التشجيع وكثرة جمهور أي لاعب كان.
- أن يكون
أحد اللاعبين طالب عند أحد الحكام فمن طبيعة البشر العاطفية أن تتجه عواطف مدربه
نحو لاعبه وتكون قراراته وفق هذه العواطف، وهنا أنصح الحكم النزيه والعادل إذا أراد
ألا يقع تحت تأثير هذه العاطفة أن يطلب انسحابه من التحكيم ولو مؤقتًا حتى تنتهي
مباراة لاعبه سواء أكان حكم زاوية أو حكم وسط.
- خضوع
الحكم لخداع اللاعب وإعطاء القرار بناءً ذلك، فبعض اللاعبين إذا لمست وجهه يد
منافسه لمسة خفيفة عن غير قصد يبالغ ويمثل دور المصاب إصابة خاطئة لكي يقوم الحكام
باحتساب هذا الخطأ على منافسه. وبعض اللاعبين أينما أصيب بضربة صحيحة بلكمة إلى
البطن أو بضربة رجل في مكان صحيح على البطن أو الفخذ يسارع إلى وضع يديه على خصيتيه
والنزول إلى الأرض وإظهار الألم وكل ذلك من أجل خداع الحكام لإعطاء خطأ على اللاعب
الآخر وهو ما سوف يؤثر على النتيجة في حال تكرار ذلك فيكون الفوز من نصيبه، لا لأنه
فاز بمهارته فاللاعب الماهر والواثق من نفسه لا يكون مخادعًا، وإنما لأن اللاعب
الآخر قد خسر بسبب الأخطاء التي احتسبت ضده بسبب خداع اللاعب المخادع.
- رفع
الحكم العلم الخطأ والرجوع عن ذلك ورفع العلم الصحيح هو التصرف الصحيح والعادل، إلا
أن بعض الحكام ولكي لا يقال عنه إنه أخطأ يصر على استمرار رفع العلم الخطأ حتى بعد
إدراكه أنه خطأ مما يعد ظلمًا وهدرًا لحق أحد اللاعبين وارتكاب لذنب وإثم كبير، فأن
يقال عنه إنه أخطأ وصحح خطأه لهو أفضل وأيسر من أن يقال عنه إنه ظالم وفاشل في
تحكيمه وقراراته.
فإذا كان
الحكم ممن تضغط عليه مثل هذه الأمور ولا يستطيع مقاومتها فالأولى أن يعتذر عن
التحكيم من الأساس، أو ينسحب من بعضها.
حكم الوسط:
------------
إن
لحكم الوسط العادل دور كبير في ضبط وتصحيح وإلغاء قرارات القضاة الذين هم تحت
إدارته في الحلبة، وبإمكانه طلب استبدال أي قاضِ يلاحظ عليه الانحياز المقصود، أو
الحكم الذي يخطأ كثيرًا في قراراته بواسطة الأعلام التي يحملها، أو الحكم الذي
يتأخر بحركة علمه لكي يقلد حركة علم حكم آخر. كما أن من صلاحياته تأخير إعلان
النتيجة إذا رأى أنها ظالمة وليست في صالح الفائز فعلاً في المباراة وبإمكانه هنا
أن يستدعي الحكام ويتفاهم معهم أو يذهب بهم إلى الحكم العام أو اللجنة العليا
للبطولة من أجل الاتفاق على النتيجة الصحيحة والعادلة. كما أن له دور كبير بحكم
قربه من اللاعبين أثناء المباراة أن يكتشف إذا كانت الضربة صحيحة أو في مكان خطأ،
وأن يكتشف أيضًا تمثيل اللاعب وخديعته بالإصابة في مكان خطأ فيبطل الحكم قرارات
القضاة خاصة إذا كانا اثنين فقط من أصل الأربعة ولا يحتسب خطأً ضد منافسه بل يمكنه
أن يحتسب الخطأ على اللاعب المخادع نفسه إذا كان الحكم متيقنًا من تمثيله وخداعه،
وأن يوجه له إنذارًا بالطرد إذا حاول التمثيل والخداع مرة أخرى. أما إذا كان إعلان
الخطأ من قبل ثلاثة قضاة أو أربعة فهنا يكون ملزمًا بقرارهم بحسب قانون التحكيم
والأمر خارج عن إرادته.
ويجب على
حكم الوسط أن يكون عادلاً ولا يخشى لومة لائم في قراراته الصحيحة، وعليه ألا يجامل
مدربًا أو مسؤولاً بترجيح فوز لاعبه لأن الثقة به ستهتز فيما بعد، بل إن القرارات
العادلة والصارمة التي ربما يشعر بأنها سوف تجلب له بعض المتاعب أو اللوم من قبل
جماعة اللاعب الخاسر سوف تكون في المستقبل موضع احترام وتقدير وثقة به من قبل جميع
الأطراف بأنه حكم عادل ولا مجال عنده للانحياز أو المجاملة؛ ومن المناسب هنا أن
أذكر حديث النبي
ﷺ الذي قال: «من التمس
رضى الله بسخط الناس رضي الله عنه، وأرضى الناس عنه، ومن التمس رضا الناس بسخط الله
سخط الله عليه، وأسخط عليه الناس»[2].
أي إنك إذا كنت عادلاً بقرارك التماسًا لرضى الله ولو سخط عليك جماعة اللاعب
الخاسر؛ فسوف يرضى عنك الله ويجعل جماعة اللاعب الخاسر يرضون عنك أيضًا ولو بعد
حين.
وبهذا
الخصوص أذكر أنني كنت يومًا أقوم بدور حكم الوسط في بطولة دولية وكان المتباريان
أمامي لاعب ياباني مع آخر غير ياباني، وكان ذلك أمام الياباني رئيس الاتحاد الدولي
للكاراتيه كيوكوشن كايكان (ماتسوي)، فلم أجامله بترجيح فوز الياباني كما يفعل بعض
الحكام بل أعلنت خسارته لأنها النتيجة الصحيحة، مع أن مباراة الياباني هذه قد انسحب
من تحكيمها حكم دولي ومنظم للبطولة ودعاني لتحكيمها بنفسي حتى يتفادى ردة فعل
(ماتسوي) أو إغضابه فيما لو خسر الياباني، أو حتى لا يقع تحت ضغط المجاملة له.
وختامًا
أسأل الله تعالى أن يصلح أحوال حكام البطولات وأن يجعلهم على قدر كبير من النزاهة
والعدل في قراراتهم، وأن يبعدهم عن الانحياز والمحاباة والمجاملة، وأن يوفقنا إلى
ما يحبه ويرضاه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علَّمنا، وأن ينفع بنا غيرنا
من المسلمين، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلَّم تسليمًا.
والسلام
عليكم ورحمة الله وبركاته.
أخوكم
عدنان
الطَرشَة
- رئيس فرع الاتحاد الدولي للكيوكوشن
كايكان.
- الخبير الدولي للكيوكوشن في المملكة
العربية السعودية.
[1]
صحيح الجامع الصغير 4446.
[2]
صحيح ابن حبان 275.
رابط الموضوع في موقع عدنان الطرشة:
النزاهة والعدل في البطولات
لتنزيل الملف
pdf:
النزاهة والعدل في البطولات