الحمد لله رب العالمين،
والصلاة والسلام على خاتم
الأنبياء والمرسلين نبينا
محمد وآله وصحبه أجمعين.
لقد صار من المتفق عليه على
صعيد العالم أجمع من منظمات
صحية وهيئات طبية عالمية بأن
الدخان مضر بالصحة ويسبب
السرطان ويقتل الملايين كل
عام وأسموه القاتل البطيء،
وأثبتوا بالأدلة ما يحتويه
الدخان من السموم الكثيرة
التي تسبب الإدمان ومن يدخنه
يسمى مدمنًا، وهو السلعة
الوحيدة التي تباع للناس
وعليها تحذير مكتوب بأنه يسبب
السرطان ويؤدي إلى الموت، ولا
ينكر شيئًا من ذلك أحد من
الناس إلا شخص واحد: هو
المدخن نفسه! لماذا؟ لأنه
مكابر وعنيد أكثر من مدمن
المخدرات الذي يقر بأنه مدمن
ومريض وبأنه يمارس شيئًا
معيبًا في حق نفسه ويتصرف على
هذا الأساس فيختفي عن الأنظار
عند تعاطي المخدرات ويحرص على
ألا يراه أحد؛ وهذا الإقرار
بالإدمان يجعل الباب مفتوحًا
لعلاجه وتخليصه من المخدرات؛
لأن الإقرار والاعتراف بالمرض
هو أحد أهم الأسباب لنجاعة
العلاج والباب الذي يمكن
الدخول منه لعلاج المريض.
أما المدخن مدمن النيكوتين فهو
على عكس مدمن المخدرات، حيث
لا يقر بأنه مدمن ولا يعترف
بأنه مريض أو يمارس شيئًا
معيبًا في حق نفسه؛ وهو يتصرف
على هذا الأساس فيشرب الدخان
في العلانية أمام الناس
ويتباهى به في الشوارع وفي
المقاهي والمطاعم، ويضايق
الناس ويؤذيهم خاصة في
الأماكن العامة والمغلقة
ويجبرهم على التدخين معه عن
طريق استنشاق دخانه فيما صار
يُعرف بمصطلح (التدخين
السلبي). وبهذا الرفض للإقرار
بالإدمان ورفض الاعتراف
بالمرض يجعل الباب مسدودًا
أمام علاجه وتخليصه من
نيكوتين الدخان، وهو يظل يردد بأنه
ليس مدمنًا ويعطيك من الأعذار
الواهية ما ليس له نهاية.
وأنت إذا أردت أن تعرف فعلاً
ما إذا كان حقًا أم باطلاً،
جيدًا أم سيئًا، فقم بتعميمه
على الناس؛ أي تخيل أن جميع
الناس يفعلونه فعند ذلك تظهر
لك حقيقة حاله؛ فهذا ينكر أنه
مدخن ويقول إنه لا يبتلع
الدخان وإنما ينفثه تنفيثًا،
وذاك ينكر أنه مدمن دخان
ويقول إن تدخينه السيجارة
مجرد عادة ارتبطت مع شربه
القهوة أو بعد تناوله الطعام
أو عند ركوبه السيارة وغير
ذلك من المواقف والظروف،
فتخيل أن جميع الناس يفعلون
مثله. وآخر يعترف بأنه مدخن
ولكن للحصول على أمور لا
تتحقق إلا بشرب الدخان حسب
رأيه مثل تهدئة الأعصاب عند
الغضب، أو إزاحة الهم والحزن
عن النفس، أو عند الحاجة إلى
التفكير والتخطيط وغير ذلك من
الأمور، ولك أن تتخيل أنه إذا
كان ذلك حقًا وصدقًا وأن ذلك
لا يتحقق إلا بشرب الدخان
فإذًا على جميع الناس أن
يشربوا الدخان لتحقيق هذه
الأمور! فهل هذا حق أم باطل،
جيد أم سيئ؟ هل كل من يغضب أو
يصاب بالهم والحزن أو يفكر
ويخطط عليه أن يدخن؟!
مهما كان المدخن عليه من منصب
وجاه أو علم واختراع إلا أنه
في ذاته الداخلية ضعيف
الإرادة وضعيف المقاومة أمام
الدخان فيدافع عنه وينفي عنه
كل ضرر وسوء وتحريم وإذا كان
الله تعالى يقول عن رسوله
محمد صلَّى الله عليه وآله
وسلَّم:
﴿وَيُحِلُّ
لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ
وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ
الْخَبَائِثَ﴾[1]؛
فالمدخن يكذب على نفسه حين
يصنف الدخان في خانة الطيبات
هربًا من الاعتراف بأنه مدمن
للخبائث المحرمة.
لقد
أخذت الحكومات تمنع التدخين
في الأماكن
والمواصلات
العامة؛ لأنه خبيث ومؤذي
ويسبب الضرر والمرض، ويجب
حماية غير المدخنين من ذلك،
وليعاني المدخن وحده من أذى
دخانه وضرره ثم بعد ذلك لا
يلومن إلا نفسه!.
وقد صار المدخن منبوذًا
وممنوعًا من التدخين
ولم يعد يجد مكانًا لتناول
جرعة النيكوتين التي أدمنها
إلا إذا انزوى في دورة مياه،
أو خرج من مكان العمل إلى
الشارع، أو توارى عن الأنظار
واختبأ مثل اللصوص أو على
الأقل مثل مدمني المخدرات.
فلماذا يحدث كل ذلك للمدخن
لولا أنه يشرب شيئًا مصنفًا
ضمن فئة الخبائث وتجعل منه
شخصًا خبيثًا يُخشى منه أن
ينشر خبثه على الآخرين
ولهذا يتم عزله وتجنبه؟.
هل شيوع المخدرات والمجاهرة
باستخدامها في كل مكان يغير
من حقيقتها وخبثها؟ وكذلك
شيوع الدخان وكثرة مستخدميه
لا يغير من حقيقته وخبثه. ولا
يزال المدخن يكابر ويعاند
بأنه ليس مدمنًا!.
لقد أعلن مسؤولون رفيعون في
الأجهزة الصحية الأميركية
وغيرها أن الولايات المتحدة
تفكر بتصنيف النيكوتين في فئة
المخدرات، لأن مفعول الإدمان
الذي يولده النيكوتين يجيز
إدخاله إلى فئة المخدرات،
وقالوا إنهم يملكون المزيد من
الأدلة على أن صانعي السجائر
يتعمدون رفع مستوى النيكوتين
في منتجاتهم لتنمية الإدمان
لدى زبائنهم. وعدَّوا أن ذلك
الأمر ((يظهر بوضوح أن صانعي
السجائر في أميركا ليسوا إلا
أشهر تجار للمخدرات))[2].
وقد رفعت مجموعة محامين في
مدينة سان فرانسيسكو دعوى
قضائية بمبلغ خمسة بلايين
دولار ضد أكبر شركات صناعة
التبغ في الولايات المتحدة
بتهمة التآمر لجعل المستهلكين
مدمنين لمادة النيكوتين، وقال
المحامون في دعواهم القضائية
إن شركات التبغ في كل أنحاء
العالم تقوم بإضافة المزيد من
مادة النيكوتين لإجبار
الزبائن والمستهلكين المدمنين
على شرب الدخان في الاستمرار
على عادة شراء السجائر وكذلك
المحافظة على تلك العادة
الذميمة. وقالوا: ((سنبرهن
بأن صناعة التبغ قد تآمرت
للإيقاع بك في حبائلها وأسرك
بل وقتلك))[3].
ولا يزال المدخن يكابر ويعاند
بأنه ليس مدمنًا لنيكوتين
ومخدرات الدخان!.
تفوح رائحة الدخان الكريهة
والخبيثة من فم المدخن وشعره
وثيابه فتتأذى عائلته وكل من
يكون بجواره ويعلق دخانه في
السجاد والستائر وأثاث البيت
وملابس من يزوره أو يلتقي به
ولا يزال على ما هو عليه من
المكابرة والعناد بأنه ليس
مدمنًا..! تصفر أسنانه وتتسوس
وتهترأ رئتاه وتتعفن وتبدأ
بإخراج البلغم بالألوان
المتنوعة ويملأ سعاله أرجاء
المكان ويصاب بالأمراض
المختلفة التي يسببها الدخان
ولا يزال يصر على أنه ليس
مدمنًا! وكان الله في عون
زوجته وأولاده الذين أثبتت
الدراسات والوقائع الاجتماعية
أن النسبة الكبيرة من الأطفال
أبناء المدخنين يصبحون مدمني
نيكوتين دخان مثل آبائهم
عندما يكبرون أو حتى عندما
يصبحون في سن المراهقة، وذلك
بسبب أنهم كانوا يشاركونه
التدخين باستنشاقهم للدخان
المنبعث من سجائره رغمًا
عنهم. ولا يزال المدخن يكابر
ويعاند بأن الدخان لا يسبب
الإدمان وهو ليس مدمنًا ولن
يكون أولاده مدمنين حتى ولو
قلدوه وصاروا مدخنين!. وإذا
سألته إذا كان يرغب في أن
يقوم ولده بالتدخين مثله؟
يصرخ نافيًا ذلك، هذا بالكلام
فقط أما بالفعل وهو أبلغ من
الكلام فإنه يقوم بإقناع ولده
بالتدخين يوميًا عشر مرات أو
أكثر وذلك مع كل سيجارة
يدخنها أمامه ولا يزال المدخن
يكابر وينفي أن يؤدي تدخينه
أمام ولده إلى قيام ولده
بالتدخين مثله عاجلاً أو
آجلاً. فلماذا تصرخ أيها
المدخن وتنفي ولا ترغب أن
يصبح ولدك مدخنًا؟! أليس هذا
اعترافًا منك بأن التدخين
عادة سيئة ومقيتة ومضرة؟!
فلماذا لا تطبق ذلك على
نفسك؟! وهنا يفيق ويعود مرة
أخرى ليدافع عن الدخان ولينكر
أنه مدمن للنيكوتين حتى وإن
لم يكن بمقدوره الإقلاع عنه.
لو أنكر المدخن كل ذلك فإنه
لن يكون باستطاعته إنكار أنه
عدو للبيئة الطيبة والهواء
النقي وذلك بتلويثه للبيئة
والهواء وإفساد الأوكسجين من
حوله من جميع الجهات ولأبعد
من عشرة أمتار أثناء نفثه
للدخان، وفعل المدخن هذا وهو
في الشارع مثله مثل فعل عوادم
السيارات التي تنفث الدخان من
خلفها وتلوث البيئة وتفسد
الهواء.
وأعود مرة أخرى إلى (التحذير)
من التدخين الذي تطبعه (شركات
الموت) أي الشركات المصنعة
للدخان على كل علبة دخان
تنفيذًا لأوامر منظمة الصحة
العالمية ووزارات الصحة في
العالم؛ فهو شيء عجيب فعلاً
وفيه عدة أمور تستحق ذكرها:
فإضافة إلى الاعتراف فيه بأن
التدخين يسبب الإدمان ويدمر
الصحة ويسبب السرطان والموت
المبكر..إلخ مما يعد تنفيرًا
للناس من شراء الدخان وهو أمر
يخالف مبدأ وطرق التسويق
والترويج وترغيب الناس الذي
تتفنن فيه الشركات المصنعة
لأي سلعة أخرى غير الدخان،
ففي (التحذير) حقيقة أخرى
علينا أن نتوقف عندها ونتفكر
فيها ونتساءل: لماذا تضع
شركات الدخان هذا (التحذير)
المخيف على علب الدخان، ألا
يخشون من نفور الناس من
شرائها ومن ثَم كساد هذه
السلعة وإفلاس الشركات
وإغلاقها؟ والجواب هو أن
شركات الدخان واثقة كل الوثوق
ومطمئنة كل الاطمئنان بأن
(التحذير) لن يؤثر بأي شكل من
الأشكال على المدخن لأنهم
جعلوه مدمنًا لا يستطيع
الإقلاع عن الدخان بل لا
يستطيع الصبر على مرور أكثر
من الوقت اللازم لتناوله جرعة
النيكوتين التي أدمن عليها؛
وهذا ما تراه فعلاً في مدمن
الدخان.
ومع كل ذلك فالمدخن يتجاهل
هذا (التحذير) ولا يأبه له بل
يحاول ألا تقع عينه عليه ولا
يقرأه خوفًا من أن تقتنع نفسه
بالمكتوب فيه فتحثه على
الإقلاع عن الدخان وهو أضعف
من أن يفعل ذلك لأنه مدمن له
ولا يريد الإقلاع عنه. وبعض
المدخنين يذهب إلى أبعد من
ذلك بأن يكذب الشركات المصنعة
للدخان ويعدها مخطئة فيما
تذكره في (التحذير)، أي يزايد
عليها بأنه أعلم منها بحقيقة
الدخان وأنه لا يضر فها هو
صحيح البدن ولم يمت! وكأنه
بمجرد التدخين ليوم أو أسبوع
أو شهر يصاب بالأمراض ولا
يعلم بأن المسألة تراكمية
وتحتاج إلى وقت ومن هنا جاءت
تسمية الدخان بـ (الموت
البطيء) و (القاتل البطيء).
حتى حملات التوعية من أخطار
التدخين الصحية والبيئية التي
تقوم بها جهات مختلفة هنا
وهناك كانت محدودة التأثير
بشهادة العديد من المراقبين
وممثلي جمعيات الدفاع عن حقوق
المستهلك.
لقد حارت منظمة الصحة
العالمية ووزارات الصحة في
العالم في أمر هذا المدخن
المدمن المكابر العنيد الناكر
للإدمان، فهي تسعى للحفاظ على
صحته وحياته لإنقاص أعداد
قتلى الدخان في العالم الذين
بلغوا عشرة ملايين سنويًا لحد
الآن..! وهو لا يبالي بصحته
وحياته ولو مات بسبب الدخان!.
فبعد أن أجبروا شركات الدخان
على طبع (التحذير) اقتنعوا
أخيرًا بأن المدخن يتجاهل هذا
(التحذير) وأنه لا يؤثر فيه
لأنه مدمن ولم يحقق (التحذير)
الغرض منه وهو حث المدخنين
على الإقلاع عن التدخين؛
فألزموا الشركات المصنعة
للدخان مرة أخرى أن تضع مع
(التحذير) صورًا لما يفعله
الدخان بالمدخن وصحته
وقالت منظمة الصحة العالمية:
((إنه يتعين أن تظهر على علب
السجائر صور مطبوعة للأسنان
الصفراء واللثة السوداء
وأورام الرقبة الناتئة والمخ
النازف لإنذار المدخنين
بمخاطر تعرضهم للأمراض))،
هذا مع تنوع نصوص التحذير
مثل: (التدخين يسبب الإدمان)،
(التدخين يسبب الوفاة
المبكرة)، (التدخين يحرق
أعضاء الجسد بأكثر من 25
مرضًا بما في ذلك السرطان
والأمراض القلبية)، (دخان
التبغ يؤذي الجنين وقد يؤدي
لنقص الوزن عند الولادة أو
الولادة المبكرة)..إلخ؛ ولكن
هيهات هيهات! فلا حياة لمن
تنادي ولا اهتمام من قبل
المدخن المدمن!. فقد
كشفت بعض الدراسات أن الصور
التحذيرية التي توضع على علب
السجائر للتحذير من مخاطر
التدخين لا يكون لها تأثير
كبير على المدخنين من فئة
الشباب. وأن تلك الصور لم يكن
لديها تأثير واضح لتنفير
المدخنين من الاحداث ممن
تتراوح أعمارهم ما بين 11 الى
16 عامًا بل إن تأثيرها
الإيجابي كان على غير
المدخنين[4].
لا فائدة...! فالمدخن عصي على
الحلول ولا تنفع معه الأفكار
والطرق الجديدة الأممية
الدولية لكي يقلع عن التدخين.
فها هو المدخن المدمن يقوم
مرة أخرى بإفشال الغرض من هذه
الصور؛ فبدلاً من أن تجعله
يرتدع وينفر من الدخان ويقلع
عنه بسببها خوفًا
من أن يكون مصيره مثل مصير من
يراهم في الصور أخذ
ينتقد هذه الصور ويصفها
بالمقرفة والمقززة والمنفرة
ويعترض على طبعها على حبيبة
قلبه ونفسه (علبة الدخان)
التي هو مستعد أن يضحي من
أجلها بما هو معروف أنه من
أعز الأشياء عند الإنسان وهو
المال!. ومع كل ذلك لا يزال
المدخن يكابر ويعاند ويصر على
أنه ليس مدمنًا لنيكوتين
الدخان.
إن اللحظة الوحيدة التي يمكن
أن يعترف فيها المدخن بأنه
مدمن لنيكوتين الدخان فإنه
للأسف الشديد لن يكون بمقدوره
أن يخبرنا بذلك لأنه عندها
سيكون من ضمن الملايين التي
في الإحصائية السنوية لمنظمة
الصحة العالمية لضحايا الدخان
في العالم الذين ماتوا بسبب
الدخان، وهي التي سوف تخبرنا
بأنه كان مدمنًا للنيكوتين
ومات. فعجبًا للمدخن الذي يحب
قاتله (الدخان) هذا الحب
الشديد الجارف! إنه يدفع
المال ليشتري قاتله ليصطحبه
في جيبه إلى كل مكان حتى إلى
سرير نومه، وبعد زمن يغدر به
هذا (القاتل المحبوب) ويضيفه
إلى إحصائية قتلى الدخان،
وعند ذلك لن يستطيع المكابرة
والإنكار على أنه كان مدمنًا
للدخان بل سيعترف بالحقيقة من
تلقاء نفسه؛ لأنه بعد الموت
يفيق من غفلته ويُكشف عنه
الغطاء وتظهر له الحقائق كما
قال الله تعالى:
﴿لَقَدْ
كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ
هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ
غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ
الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾[5].
وختامًا أسأل الله تعالى أن
يكفينا شر الدخان وخبثه، وأن
يعيننا على تجنبه والامتناع
عن شربه ما حيينا، وأن يوفقنا
إلى ما يحبه ويرضاه، وأن
يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا
بما علَّمنا، وأن ينفع بنا
غيرنا من المسلمين، وصلى الله
على نبينا محمد وآله وصحبه
وسلَّم تسليمًا.
عدنان الطَرشَة