الحمد لله رب العالمين،
والصلاة والسلام على خاتم
الأنبياء والمرسلين نبينا
محمد وآله وصحبه أجمعين. أما
بعد،
فلقد صار
من المتعارف عليه بل المشهور
عند الناس أن يوصف كل من يموت
قتلاً بأنه (شهيد) وصار من
السهل على ألسنة الناس وخاصة
عائلة القتيل إطلاق حكم
الشهادة على قتيلهم وتهنئته
وتلقي التهاني بالشهادة
وبالجنة؛ وهو ما يتمناه أهل
القتيل لقتيلهم وذلك لما هو
معروف عن عظم مرتبة الشهادة
وأجرها وفضلها على الشهيد
وعلى أهله أيضًا، حيث
للشهيد عند الله ست خصال، قال
رسول الله صلَّى الله عليه
وآله وصحبه وسلَّم:
«للشهيد
عند الله ست خصال: يُغْفَرُ
له في أول دفعة ويرى مقعده من
الجنة، ويُجار من عذاب القبر،
ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع
على رأسه تاج الوقار،
الياقوتة منها خير من الدنيا
وما فيها، ويُزَوَّج اثنتين
وسبعين زوجة من الحور العين،
ويشفع في سبعين من أقاربه»[1].
كما
أنه ليس هناك ميت يتمنى
الرجوع إلى الدنيا فيُقتل مرة
أخرى إلا الشهيد، وهو يتفرد
بهذه الميزة لما يرى من
الكرامة وفضل الشهادة وعظيم
أجرها عند الله تعالى. وقد
قال النبي
ﷺ:
«ما
من عبد يموت له عند الله خير
يسره أن يرجع إلى الدنيا وأن
له الدنيا وما فيها، إلا
الشهيد لما يرى من فضل
الشهادة، فإنه يسره أن يرجع
إلى الدنيا فيُقتل مرة أخرى»[2].
كما أن الشهيد في سبيل الله
حي عند الله كما
قال الله تعالى: ﴿ولا
تحسبن الذين قُتلوا في سبيل
الله أمواتًا بل أحياء عند
ربهم يُرزقون
~ فرحين بما آتاهم الله من فضله
ويستبشرون بالذين لم يلحقوا
بهم من خلفهم ألا خوف عليهم
ولا هم يحزنون
~ يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن
الله لا يضيع أجر المؤمنين﴾[3].
هذه الكرامة والفضائل والخصال
هي لمن يعلم الله ويحكم عليه
بأنه شهيد حقًا، أو شهد له
الرسول
ﷺ
بذلك بوحي من الله تعالى،
وليس لكل من يصفه الناس بأنه
شهيد؛ أي هو من اختصاص رب
العالمين وليس من اختصاص
المخلوقين، والله تعالى وحده
يحكم عليه بدخوله الجنة أو
بدخوله النار؛ لأنه تعالى
يعلم السر وأخفى ويعلم حقيقة
المقتول ونواياه التي يجهلها
أقرب الناس إلى المقتول.
فالشهادة والجنة ليست لمن هب
ودب وادَّعى أنه قاتل في سبيل
الله أوسمَّاه الناس شهيدًا،
بل هي لمن يعلم الله حقيقة
سره ونيته أنه ما أخرجه
المخرج وحركه المحرك إلا
للجهاد الحق والإيمان الحق،
وأنه قاتل في سبيل الله لتكون
كلمة الله هي العليا وكلمة
الذين كفروا السفلى، قال رسول
الله
ﷺ:
«والذي
نفسي بيده لا يُكلم أحد في
سبيل الله - والله أعلم بمن
يُكلم في سبيله - إلا جاء يوم
القيامة واللون لون الدم
والريح ريح المسك»[4]،
فالجملة المعترضة «والله
أعلم بمن يُكلم في سبيله»،
فيها أن الثواب المذكور خاص
بمن أخلص في الغزو وقاتل في
سبيل الله، وفيها إشارة إلى
أن هناك من يدَّعي أنه جُرح
في سبيل الله وهو ليس كذلك؛
لأن الله أعلم بمن يُجرح في
سبيله، فقد يكون خروجه لأجل
المغنم أو لإظهار الشجاعة، أو
رياء، أو حمية، أو غضبًا، أو
طاعة لمخلوق في معصية الخالق
وغير ذلك من الأمور
الدنيوية..
فقد يكون خروجه لأجل السرقة
ويُقتل خلالها؛
وأذكر بهذا
الخصوص قصة عرفتها بنفسي حيث
وقعت قريبًا من بيتنا، فخلال
الحرب الأهلية والفوضى اقتحم
مجموعة من الناس المدنيين غير
المسلحين مصنعًا لحلويات
الشوكولا وأخذوا ينهبون ما
فيه، وكان أمام المصنع سيارة
لمسلحين وهم لصوص أيضًا فكان
كلما خرج شخص من المصنع يحمل
علب الحلويات يأمره المسلحون
بأن يضع ما يحمله في السيارة
حتى خرج عليهم شخص رفض أمرهم
فأطلقوا عليه الرصاص وقتلوه،
وفي اليوم التالي شاهدت على
الجدار ورقة نعي باسمه وفيها
كُتِب أنه شهيد!
فهذا قُتِل وهو يسرق فوصفه
أهله بالشهيد!
وقد يكون خروجه لغرض قتل
الآخرين عن سابق إصرار
وتصميم، قال
ﷺ:
«إذا
التقى المسلمان بسيفهما
فالقاتل والمقتول في النار». فقلت: يا رسول
الله هذا القاتل فما بال
المقتول؟ قال:
«إنه
كان حريصًا على قتل صاحبه»[5]؛
(التقى المسلمان بسيفهما) أي
بقصد العدوان. (في النار) أي
يستحقان دخول النار. وهناك
صنف من القتلة الذين يقتلون
لا لمصلحة شخصية لهم بل
يقتلون لتكون الفائدة والعزة
لغيرهم؛ أي يبيعون آخرتهم
بدنيا غيرهم، قال
ﷺ: «يجيء الرجل آخذًا بيد
الرجل، فيقول: يا ربِّ هذا
قتلني، فيقول الله له: لِمَ
قتلتَه؟ فيقول: قتلتُه لتكون
العِزَّةُ لك. فيقول: فإنّها
لي. ويجيءُ الرجل آخذًا بيد
الرجل فيقول: إِنَّ هذا
قتلني؟ فيقول الله له: لِمَ
قتلتَه؟ فيقول: لتكونَ
العِزَّةُ لفلان، فيقول:
فإنّها ليست لفلان، فيبوءُ
بإِثمه»[6].
إن الناس في القضايا الدنيوية
ينتظرون إصدار قاضي المحكمة
لحكمه على الرجل أنه بريء أو
متهم، فلا يسبقونه بالحكم ولا
يحكمون بالنيابة عنه، في حين
يتساهلون في إصدار الحكم
بأنفسهم على قضية غيبية
أخروية هي من اختصاص رب
العالمين وهي قضية الشهادة،
أو يصدرون حكمهم بأن الرجل من
أهل الجنة ويجزمون بذلك
بالحلف واليمين!. ويقولون عن
المقتول هنيئًا له الجنة!
وأنه الآن يرافق النبي
ﷺ
وأصحابه الكرام رضي الله عنهم
في الجنة والنعيم؛ فهذا من
التألي على الله، فهل رأوا
القتيل يسرح ويمرح في الجنة
حتى يهنؤوه بالجنة؟! وعلى
العكس من ذلك بمن يحكم على
أحد بأنه من أهل النار فهل
رأوه يتعذب في النار؟! ولهذا
حدَّث رسول الله صلَّى الله
عليه وآله وسلَّم: «أن
رجلاً قال: والله لا يغفر
الله لفلان. وإن الله تعالى
قال: من ذا الذي يتألى عليَّ
أن لا أغفر لفلان؟ فإني قد
غفرت لفلان وأحبطت عملك».
أو كما قال[7].
(معنى يتألى يحلف، والألية
اليمين).
وقال النبي
ﷺ
لكعب بن عجرة رضي الله عنه: «أبشر
يا كعب». فقالت أمه:
هنيئًا لك الجنة يا كعب، فقال
النبي
ﷺ:
«من هذه المتألية على
الله؟» قال: هي أمي يا
رسول الله، فقال: «وما
يدريك يا أم كعب؟ لعل كعبًا
قال ما لا يعنيه أو منع ما لا
يغنيه»[8].
انظر إلى هذا العمل الذي ذكره
النبي
ﷺ لعل كعبًا قد فعله وتأمل ما يصف
به الناس بعض المقتولين بأنهم
شهداء ويقولون هنيئًا لهم
الجنة وقد يكونوا قد ارتكبوا
أعظم مما ذكره النبي
ﷺ
أو ارتكبوا كبيرة من الكبائر
أو أشركوا بالله!. وفي حديث
آخر أنه عندما توفي عثمان بن
مظعون قالت أم العلاء وهي
امرأة من الأنصار: رحمة الله
عليك أبا السائب فشهادتي عليك
لقد أكرمك الله. فقال النبي
ﷺ: «وما يدريك أن الله أكرمه؟».
فقلت بأبي أنت يا رسول الله
فمن يكرمه الله؟ فقال: «أما
هو فقد جاءه اليقين، والله
إني لأرجو له الخير، والله ما
أدري وأنا رسول الله ما يُفعل
بي». قالت فوالله لا أزكي
أحدًا بعده أبدًا»[9].
فإذا كان رسول الله
ﷺ
نفسه لا يدري ما يُفعل به،
وهذا - كما قال أهل العلم -
قبل أن يوحي الله إليه بما له
من الكرامة عنده، فكيف يسمح
الناس لأنفسهم بأن يتألوا على
الله ويحكموا على هذا وذاك
بأنه شهيد وهنيئًا له الجنة
ومرافقة النبيين والصديقين
والشهداء والصالحين؟! لا بل
صار الناس يصفون هذا بأنه
(شهيد الفن) وذاك (شهيد
السياسة) و(شهيد الحب) وغير
ذلك! إن غاية ما يقوله المؤمن
عمن يرجو أن يكون من الشهداء
هو أن يدعو له بأن يتقبله
الله في الشهداء لا أن يحكم
ويتألى على الله بأنه من
الشهداء. ولهذا كتب البخاري
في صحيحه: (باب لا يقولُ
فُلاَنٌ شهيدٌ. قال أبو هريرة
عن النبي - صلَّى الله عليه
وسلَّم - «الله
أعلم بمن يُجاهِد في سبيله،
الله أعلم بمن يُكْلَمُ في
سبيله».
فأمام هذه الفوضى والتساهل
في إطلاق وصف الشهيد على كل
من يموت مقتولاً، كان لا بد
من توضيح الصفة الحقيقية
للشهيد، فقد أخبر الخالق
تبارك وتعالى من هم الشهداء
حتى لا يخطئ الناس في معرفتهم
فيتوهمون في كل من هب ودب
ومات مقتولاً بأنه شهيد. وهذه
قائمة بالشهداء الحقيقيين:
فأولاً المجاهد المقاتل في
سبيل الله هو من الشهداء؛
وحتى لا يفسر كل إنسان على
هواه معنى (القتال في سبيل
الله) فقد أوضح النبي
ﷺ هذا الأمر، فقد جاء رجل إلى
النبي
ﷺ
فقال: يا رسول الله ما القتال
في سبيل الله؟ فإن أحدنا
يقاتل غضبًا ويقاتل حميةً،
(غضبًا) انتقامًا حالة الغضب.
(حمية) محاماة عن العشيرة.
وفي رواية أخرى قال الرجل:
«الرجل يقاتل للمَغنم،
والرجل يقاتل ليُذكَرَ،
ويقاتل ليُرى مكانه، من في
سبيل الله؟ فقال
ﷺ:
«من قاتل لتكون كلمة الله
هي العليا فهو في سبيل الله
عزَّ وجلَّ»[10].
(للمَغنم) أي من أجل الغنيمة.
(ليُذكَر) للشهرة بين الناس.
(ليُرى مكانه) مرتبته في
الشجاعة. «كلمة الله هي
العليا» كلمة التوحيد
ودعوة الإسلام العالية فوق كل
ملة ومذهب.
وقال رسول الله
ﷺ:
«ما تعدون الشهيد فيكم؟».
قالوا يا رسول الله من قُتِل
في سبيل الله فهو شهيد قال: «إن
شهداء أمتي إذًا لقليل».
قالوا: فمن هم يا رسول الله؟
قال: «من قُتِل في سبيل
الله فهو شهيد، ومن مات في
سبيل الله فهو شهيد، ومن مات
في الطاعون فهو شهيد، ومن مات
في البطن فهو شهيد». «والغريق
شهيد»[11].
وقال رسول الله
ﷺ:
«مَنْ قُتِلَ دُونَ
مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ»[12].
«دون
ماله» مدافعًا من
يريد أخذ ماله ظلمًا.
«شهيد»
له أجر الشهيد عند الله
تعالى.
وقال
ﷺ:
«الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون،
والغريق، وصاحب الهدم،
والشهيد في سبيل الله عزَّ
وجلَّ»[13].
(المطعون) هو الذي يموت في
الطاعون، و(المبطون) صاحب داء
البطن وهو الإسهال، قال
القاضي: وقيل هو الذي به
الاستسقاء وانتفاخ البطن،
وقيل هو الذي يموت بداء بطنه
مطلقًا، وأما الغريق فهو الذي
يموت في الماء، وصاحب الهدم
من يموت تحته.
وإضافة إلى هؤلاء فإن من صدق
مع الله في طلب الشهادة في
سبيله أعطاه الله إياها وإن
مات على فراشه إذ قال رسول
الله
ﷺ: «من
طلب الشهادة صادقًا أعطيها
ولو لم تصبه»[14].
وقال
ﷺ:
«من سأل الشهادة بصدق بلَّغه منازل
الشهداء وإن مات على فراشه»[15].
فهؤلاء هم الذين نرجو من الله
تبارك وتعالى أن يكتبهم
ويتقبلهم في الشهداء؛ لذا على
الناس أن يصونوا ألسنتهم عن
التألي على الله ووصف كل
مقتول بأنه شهيد وتقديم
التهاني له بالجنة؛ فهذا
الحكم ليس من اختصاص البشر
المخلوقين وإنما هو من اختصاص
رب العالمين.
وختامًا أدعو الله العلي
القدير أن يرزقنا الشهادة في
سبيله، وأن يرحمنا برحمته،
وأن يتقبل في الشهداء كل مسلم
قُتل ظلمًا وتعمدًا، وأن
يتوفانا مسلمين ويلحقنا
بالصالحين ويحشرنا في جنات
النعيم مع النبيين والصديقين
والشهداء والصالحين وحسن
أولئك رفيقًا. وصلى الله على
نبينا محمد وآله وصحبه وسلَّم
تسليمًا.
عدنان الطَرشَة