الرئيسة  |  الموقع الإسلامي                                                          

المرض المزمن المستعصي

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

إنه مرض مزمن مستعصي لا علاج له في الدنيا؛ لأن علاجه الوحيد هو الموت! فإذا مات الإنسان حضر العلاج مباشرة. وكل مولود يولد سليمًا معافى من هذا المرض، ولو بقي هذا المولود طول حياته دون تدخلات من الآخرين وخاصة من الأبوين لظل سليمًا معافى من هذا المرض ومات دون الإصابة به.

هذا المرض المزمن المستعصي على العلاج هو الشيء المخالف لما ولد عليه المولود من الفطرة السليمة، هو الإيمان بفكرة خاطئة أو طريقة ضالة أو دين أو مذهب فاسد أو عقيدة شرك وما شابه ذلك مما لقنه الأبوان لولدهما ورباه عليه وكانا مواظبين على حشوه في عقله على مر الأيام والسنين لكي يصبح مثلهما ويسير على طريقتهما ويصبح نسخة منهما، بل إن بعض المرضى لا يقتصر تعرضه للتلقين وحشو العقل على الأبوين، بل هناك أماكن تجمع يتعرض فيه هذا الإنسان لغسيل الدماغ والشحن العاطفي المرضي ليضاف إلى ما يفعله الأبوان ولزيادة التأكيد على الإصابة الكاملة بهذا المرض ومنع الشفاء منه في الحياة.

قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وصحبه وسلَّم: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه»[1]. والفطرة هنا هي الإسلام، وأي أحد مصاب بغير هذه الفطرة مما هو مذكور في الحديث الشريف فلا يمكنك أن تعالجه مهما حاولت ومهما استخدمت جميع الطرق والوسائل والمنطق والأدلة والشواهد! لأن هذا المرض قد أصبح جزءًا لا يتجزأ عن شخصية هذا الإنسان فلا يمكنه التخلص منه أو انتزاعه من نفسه بل يصبح من أشد المدافعين عن هذا المرض وكذلك محاربة غير المصابين به والسليمين منه الذين استمروا على الفطرة منذ الولادة، أو الذين شفاهم الله منه قبل الموت بعلاج (الهداية)؛ وهذه هي الطريقة الوحيدة للعلاج أثناء حياة الإنسان كما قال الله تعالى: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ[2].

فالعلاج الوحيد لهذا المرض المزمن المستعصي الذي يمكن أن يكون في الدنيا أثناء حياة الإنسان لا يمكن أن يكون من البشر بل يكون من الله تبارك وتعالى وحده إذا قدَّر لإنسان ما أن يعالجه من هذا المرض، والعلاج هو الهداية إلى الصراط المستقيم والدين القويم والعقيدة والشريعة الصحيحة التي بلغها رسول الله صلَّى الله عليه وآله وصحبه وسلَّم للعالم أجمع ولكل الناس. فالمرض المزمن مستعصي على العلاج لأنه لا يُعمل فيه العقل والتفكر والتأمل بل يُعمل فيه العاطفة والتعود واتباع الأبوين كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ[3].

فهل يتفحص الإنسان ما عليه أبواه إن كانوا على علم أو هداية أو على حق أو باطل؟ كلا بل جرت العادة على اتباع الأبوين اتباعًا أعمى مهما كانا عليه فيصير مثلهما، فإن كان اتباعه لأبوين يتبعان الله ورسوله فنِعمَ هذا الاتباع وهو لا يزال على الفطرة وسليمًا معافى من المرض منذ ولادته، أما إن كان أبواه لا يعلمان شيئًا ولا يهتديان ولا يتبعان ما أنزل الله وأمر به رسوله بل يخالفان هذه الأوامر فبئس هذا الاتباع وهذا هو المرض المزمن المستعصي الذي لم ينجح حتى الأنبياء والرسل في علاجه لبعض أقوامهم أو حتى لأفراد من أسرهم كما حدث مع نوح ولوط عليهما السلام كما قال الله تعالى: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ[4].

قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وصحبه وسلَّم: «تفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملَّة كلهم في النار إلا ملَّة واحدة»، قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: «ما أنا عليه وأصحابي»[5]. وفي رواية: «ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة»[6]. فلو أتيت إلى أحد أتباع ملة من هذه الملل التي ستكون في النار فهل يمكنك أن تقنعه بأن ملته ضالة عن الإسلام الصحيح وأن ما يفعلونه من أفعال وطقوس يعتقدون أنها عبادة وتقرب إلى الله وفيها الأجر والثواب هي ليست كما يعتقدون، بل هي مجرد ضلال في ضلال ومصيره إلى النار؟! كلا.. بل ربما يقتلك بناءً على اعتقاده ويظن أن في قتلك الأجر والثواب ودخول الجنة! وهذا ليس مثال بل حقيقة؛ فهناك بالفعل من يقتل المسلمين بناءً على اعتقاده الفاسد الضال من قبل الملل أصحاب النار، إذ لا يستطيعون منع أنفسهم من إخراج ما في نفوسهم من الضغائن والحسد والحقد والغل للإسلام وأهله الذي يتمثل باتهام المسلمين باتهامات باطلة من اختراعهم وافترائهم ثم يقتلون المسلمين دون غيرهم عليها، وهذا هو المرض المزمن المستعصي على العلاج في الحياة. قال الله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ[7]. أي إن الله تعالى يفضحهم ويكشف أمرهم لعباده المؤمنين بما يصدر منهم من أقوالهم وأفعال.

أما كيف يكون العلاج الوحيد لهذا المرض بعد الموت إذا لم يشأ الله أن يعالج إنسان ما منه وهو حي فيموت وهو مصاب به، فهو كما قال تعالى: ﴿لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ[8]، ففي هذا الوقت لن يكون الإنسان بحاجة لمن يقنعه بفساد ما كان عليه في الدنيا من عقيدة فاسدة أو مذهب ضال أو حزب ما من أحزاب الشيطان أو ملة ما من عشرات الملل الضالة المحسوبة على الإسلام التي كلها في النار إلا واحدة كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن الغطاء قد كُشِف عنه وصار يرى الحق والدين الحق والشريعة الحق ببصر حديد، وعندها لا مجال للندم أو التراجع أو العودة إلى الدنيا لإصلاح ما كان عليه من فساد وضلال ومن أجل عمل الصالحات التي يحبها الله وأمر بها، مهما حاول هذا الإنسان وكرر طلبه من الله للعودة إلى الدنيا لفعل ذلك، كما أخبر الله عنه أنه سيقول: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ[9]؛ كلا مستحيل أن تعود إلى الدنيا لتصلح فساد ما كنت عليه وتعمل الصالحات، بل إن العدل اليوم أن تجزى بما كنت عليه في حياتك من الاعتقاد الفاسد والضال وعلى ما كنت تقوله وتفعله من أقوال وأفعال سيئة وشر وإجرام بناءً على هذا الاعتقاد الفاسد، قال الله تعالى: ﴿الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ[10].

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلَّم تسليمًا.

عدنان الطَرشَة


[1] رواه البخاري ومسلم.

[2] سورة القصص: 56.

[3] سورة المائدة: 104.

[4] سورة التحريم: 10.

[5] صحيح سنن الترمذي: 2129.

[6] صحيح سنن أبي داود: 3843.

[7] سورة محمد: 29.

[8] سورة ق: 22.

[9] سورة المؤمنون: 100.

[10] سورة غافر: 17.

تنزيل المقال pdf