الرئيسة  |  تأملات                                                          

تأملات: المنصب

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

رأيت المنصب نوعًا واحدًا في أي جهة كان أو مجال، في وزارة أو جامعة أو مدرسة أو شركة وغير ذلك من المجالات.. ولكنني رأيت الذين يعتلون المنصب نوعين من الرجال؛ نوع متمكن من المنصب ومسيطر عليه فهو غالب للمنصب لأن شخصيته أكبر من المنصب. ونوع يغلبه المنصب لأن المنصب أكبر من شخصيته فيجعله يتأرجح يمنةً ويسرةً، ويقذفه هنا وهناك.

أفضل مثال يمكن أن يوضح المقصود هو مسابقة امتطاء الثور الهائج، فتجد أحد المنافسين قد سيطر على الثور على الرغم من أن الثور الهائج يقوم بكل الحركات التي يحاول فيه إسقاط الرجل عن ظهره فيفشل ويستسلم للرجل الذي سيطر عليه فيسوقه كيفما يريد، ومنافس آخر يقوم الثور الهائج ببعض الحركات والقفزات فيسقط الرجل على الأرض وربما يأخذ في مهاجمته بقرونه حتى يقتله أو يجعله جريحًا بحاجة إلى المستشفى.

فالثور الهائج هو المنصب، ومع أن هذا الثور هو نفسه إلا أن ما فعله بالرجلين هو فعل مختلف والنتائج مختلفة، رجل سيطر عليه، ورجل آخر صار ضحية له فمات أو أرسل جريحًا إلى المستشفى.

فإذا أتينا لتطبيق ذلك على المنصب والرجلين، فالرجل الذي يغلب المنصب ويسيطر عليه يستحق القول المشهور (الرجل المناسب في المكان المناسب) لأنه قد فهم واجبات هذا المنصب واستوعب مسؤولياته والتزم بها دون أن يتعداها إلى غيرها مما هو ليس من مسؤولياته ولا دخل له فيها.

أما الرجل الذي يغلبه المنصب فهو على العكس من ذلك تمامًا، فهو لم يفهم واجبات منصبه ومسؤولياته لكي يتوقف عندها ولا يتعداها إلى غيرها، فتجده من أجل أن يبرز سلطته يستغل المنصب فيقحم نفسه ويتدخل في مسائل وأمور خارجة عن مسؤولية منصبه وغير متخصص فيها، فيفرض على الآخرين أمورًا هي من صميم تخصصهم ومسؤولياتهم، مما يخلق مشكلات حقيقية بينه وبين من هم تحت سلطته، الذين يرونه متطفلاً على تخصصهم وعلى ما هو من مسؤوليتهم، وهو يهرف بما لا يعرف.

ومن أجل توضيح الصورة أكثر فلنختار أحد المجالات المذكورة في بداية الكلام وهو المدرسة. ففي المدرسة هناك مدير ومعلمون، فمدير يفهم أن مسؤوليته تنحصر في الشؤون الإدارية؛ مثل تكليف كل معلم بصف معين، وعمل جدول للحصص والمواد المختلفة، وغير ذلك من الأمور الإدارية، ويفهم أن لا شأن له في التدريس لا في هذه المادة ولا تلك لأن ذلك ليس من اختصاصه وإنما هي من اختصاص المعلم الذي يدرسها؛ فهو مدير ناجح في المكان المناسب.

وأما المدير الآخر فهو على الرغم من اختصاصه في الأمور الإدارية فقط ولا خبرة لديه في أي من المواد الدراسية، ولا في كيفية تدريسها، إلا أنه يتدخل مع هذا المعلم أو ذاك في تفاصيل المادة التي يدرسها فيفرض عليه طريقة التدريس ونوعية الأسئلة والدرجات وغير ذلك من المسائل التي هي من شأن المعلم وحده، وهو يفعل هذا لإثبات سلطته على المعلمين وفرض سيطرته عليهم، فتنقلب الأمور رأسًا على عقب في هذه المدرسة، وتنشأ الخلافات والنزاعات بين المدير والمعلمين الذين يفتر حماسهم عن تدريس موادهم بسبب مديرهم، وربما بعضهم يترك العمل في التدريس أو على الأقل يترك العمل في هذه المدرسة وينتقل إلى غيرها، فضلاً عن تأخر العملية الدراسية وفسادها في هذه المدرسة وتأثيرها سلبًا على الطلاب، وكل ذلك بسبب مدير غلبه منصبه ولم يستطع السيطرة عليه أو التحكم السليم فيه. فهذا مثال ويمكن القياس عليه أي مجال أو جهة عمل أخرى موجودة في الحياة.

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلَّم تسليمًا.

عدنان الطَرشَة